رحلة في عالم المبدع “السيد حافظ”
بقلم د. أمل درويش
أعترف أن كل قرآتي السابقة قبل الدخول في عالم السيد حافظ “مع حفظ الألقاب” كانت أمية، تفتقد البصيرة والإحساس..
كنت أحيانًا أتملل من قراءتي للبعض، وكثيرًا ما بدأت كتبًا ولم أكملها، وأحيانًا تقفز عيناي فوق السطور وتتجاوز الصفحات.. أما في عالم هذا العبقري فلا أجرؤ أن أتجاوز حرفًا أو أعبر سطرًا دون تركيز وإمعان، وكثيرًا ما فاجأتني النهايات دون إنذار فأشعر بالحزن لانتهاء الرواية..
أعترف أنني منذ بداية قراءتي لرواية “كل من عليها خان” وأنا أشعر أنني قد تجاوزت حدود الفضاء وابتلعني ثقب أسود لا أعرف إلى أي بُعد يأخذني..
كنت أرى الجرأة في يومياته المنشورة على صفحته.. جرأة نقد الأشخاص بأسمائهم، وسرد مواقفهم المخزية التي خذلوه فيها، وكنت أتعجب من هذه الجرأة، ولكنني بعد قراءتي لعدة روايات من كتاباته شعرت بنفس المرارة وأيقنت الأسباب التي دفعته لذلك..
حالة من الحزن لا أستطيع أن أخفيها، حالة من اليأس، وطعم المرار.. إلى متى سنبقى هكذا؟ وكيف الخلاص؟
أعترف أنك يا سيدي نجحت أن تلقي على كاهلي ذنوب البشر وصولًا لأبينا آدم وأمنا حواء وخطيئة البشر الأولى بقضم التفاحة المشؤومة.. ليتهم ما شاهدوها، ولم نُخلق في هذا الكون..

قرأت ذات مرة لامرأة لا أتذكر اسمها تقول أن جميع الرجال خونة، ولكن بعضهم افتضحت خيانته والبعض لا..
وأما أنا فأقول جميعنا خونة، البعض مر بالاختبار وفشل، والبعض شرفاء لأنهم لم يتعرضوا للاختبار بعد..
وحتى وإن كنا أوفياء فمن منا لم يخن نفسه يومًا حين ارتضى الظلم والشقاء؟!
لقد بنيت يا أستاذي العبقري مرآة كبيرة ووضعت الوطن أمامها عاريًا من كل أثواب الفضيلة الزائفة حتى آخر ورقة توت احتفظ بها سقطت وتداعت..
جميع العرب أصيبوا بنفس الداء.. تضخم الأنا ورؤية الذات والدونية والاحتقار للآخر..
ثم إلقاء اللوم على أي أحد، المهم أن نثور ونزأر لإثبات التواجد وإحداث أثر..
لم أعتد أن أسرد الأثر الذي تركه عمل ما قرأته، فدائمًا تبقى أسراب الأفكار مُحلقة في خيالي، لا تبرحه، لكنها في الوقت ذاته تعصى عن التقاطها وجمعها فوق السطور..
ولكنني هذه المرة أردتُ أن أُسجل تفاصيل هذه الرحلة الماتعة، والمؤلمة في نفس الوقت..
بداية الرحلة قد تبدو صالحة لكل الأوقات، حين ينقل لنا الكاتب المبدع الأستاذ السيد حافظ واقعًا مريرًا ينفي بكل ثقة تكهنات البعض واتهاماتهم بأن المصريين اليوم يملكون چينات مختلطة، هجين تشكّل نسيجه من أمشاجٍ يونانية، رومانية، فارسية، مملوكية، عثمانية، فرنسية وانجليزية وربما أكثر من ذلك..
وأن مصريّوا اليوم لا يمتون بصلة لقدماء المصريين..
ولكن ما أكدته رؤية المبدع السيد حافظ نفت ذلك الزعم وفندته تفنيدًا؛ فها نحن نغرق في تفاصيل الرواية نتنقل بين العصور المختلفة، ننغمس حتى النخاع، وكلما مررنا بطبقة وعصر لا نجد اختلافًا بين صفات المصري فيها جميعها عن رواية “كل من عليها خان” أتحدث.
الاستسلام والخنوع والدّعة سمة لم تتغير، التراخي والكسل يليهما الشكوى من سوء الحظ والظلم، وما إن تتخطى قدماه حدود الوطن تدب فيه النشوة وروح النشاط، وما كان يرفضه هناك يُقبل عليه طواعيةً خارج وطنه.
ليس المصري فقط، ولكن معظم الشعوب العربية اتفقت على هذه الطبيعة، وزِد عليها المنافسة غير الشريفة؛ فمن اغترب سيفهم جيدًا ما ذكره الروائي الكبير عن صراعات العرب فيما بينهم فيما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية في الغربة، لا أحد يفكر في شيء سوى كيفية التخلص من الآخر، حتى ولو كان من نفس بلدك، وربما كان أخاك!!
الشعب المصري متدين بطبعه..
تلك المقولة التي يرددها الكثيرون، وما هي سوى غطاء لكل ما ليس له أي علاقة بالدين، إلا من ظاهره!!
فالمصري الذي عبد الإله الواحد متبعًا إخناتون، ثم هرب وعاد لكهنة آمون وآلهتهم المتعددة خوفًا من غضبهم، وتقبله لكل الديانات السماوية التي مرت عليه؛ حتى ذابت جميعها في نسيج واحد..
فتجد المصري يعتز بكونه من أصل قبطي، وما زال يحتفل بأعياد أجداده القدماء، ولا ينفي كونه مسلمًا ألا يحتفل بعيد الميلاد المجيد، وكذلك المسيحي الذي قد يقضي نهار رمضان صائمًا فقط لمشاركة جاره أو زميله في العمل..
وبالمثل نجد في الرواية اختلاط المذهب السني بالمذهب الشيعي وتزاوج المصريين في عصور متتالية دون النظر إلى هذه الفروق، فلطالما قدّس المصريون آل البيت واحتفوا بهم وخصصوا لهم الزيارات..
ببساطة الدين عند المصري البسيط بالفطرة، وليس بتطبيق تعاليمه بدقة، ولذلك تجده يفعل الشيء وعكسه ويظن أن النوايا الحسنة تكفيه لدخول الجنة!!
تنقلت الرواية بشكل فريد بين العصور، دون أن ترهقك التفاصيل أو تبحث عن أوجه الاختلاف، تتابع عن كثب، وتغترف من السطور بنهم، لتصل إلى جزء في زمن آخر توقف عنده السرد..
الرجل هو الرجل في كل عصر، يؤجل أي شيء إلا رغبته، يقدمها قبل أي شيء، وحين تداهمه الحياة بضغوطها يفر بما يُذهب عقله، ويؤثر الراحة المؤقتة، فمعظم خططه قصيرة المدى، على عكس النساء..
فالمرأة تبحث عن الراحة الدائمة، وترسم خططًا بعيدة المدى، تخطو إليها بخطوات واثقة، حتى وإن لبت نداء رغباتها، فذلك يكون أمرًا عارضًا وليس الأساس، وربما كانت وسيلة لتحقيق هدف ما..
ومن هنا وجدنا أن ثورة النساء كانت الحل، وهي التي كسرت الحواجز وحررت العقول..
المرأة دائمًا تقف في الصف الثاني، لكنها تملك كل خيوط اللعبة في كل عصر ومكان..
من زيّف التاريخ؟
وما هو التاريخ الحقيقي؟
للأسف لا توجد إجابة واضحة، فيبدو أننا خُدعنا في كل الأوقات، وكل المؤرخين اتفقوا على خداعنا..
فهل سنكرر أخطاءهم ونُزيّف تاريخنا كما فعلوا؟ أم أن هناك دائمًا أيدي خفية تُبدل وتُغير لحساب أحدهم؟!
الفواصل القصيرة بين الحكايات.. مسرحية المشهد الواحد وما تحمله من هموم الوطن برمزية عبقرية محبوكة ليقفز في ذهنك وجه المهرج الضاحك الباكي..
وليست مصر سوى مثال، فكل العرب يشتركون في نفس الإرث من الجهل بالذات والقدرات ومن الكسل واللوم على الآخرين، ومن ارتداء أثواب الفضيلة وإخفاء فُحش أفكارهم تحتها..
وما زالت الرحلة مستمرة في عالم روايات هذا المبدع..
ولنا حديث آخر عن “المسررواية” وكيف أتقنها وأخرجها الكاتب والمخرج العبقري الأستاذ ” السيد حافظ”
اترك تعليقك