قصة قصيرة .. بيت العيلة
حسام جمال الدين
صغارا كنا نقتات على البراءة التى لم نكن نعرف معناها حتى، كانت تلك الدنيا بالنسبة لنا.
هى اللعب والهو ثم الجرى إلى أحضان أمهاتنا بملابسنا المتسخة فى انتظار ذلك العقاب القاسى الذى يليه حضن دافيء وابتسامة تملؤ الحياة سعادة .
حزننا الأكبر كان أن تغضب الأم أو يتعصب الأب ويعلو صوته مهددا متوعدا.
كنا نرى كل شيء حولنا بعيون لا زيف يغطيها ولا نفاق يوجهها، الأماكن التى كنا نحفظها، شاطيء الترعة الصغيرة.
الطرق الضيقة الممتدة عبر الغيطان تنعش أرواحنا خضرتها، وحل الشتاء والمطر، كم كان يحلو لنا أن نغوص بأقدامنا فى مياه المطر وأن نقف تحت المطر سعداء.
تغسل أرواحنا حبات المطر المتساقطة تحيى كل ما حولنا ، كنا نحب تلك الأرض الموحلة وننتظر الشتاء بشوق ولهفة.
نجتمع كلنا حول الشالية أو المنقد متلذذين بذلك الدفء الذى تشيعه النار الموقدة ، كنا نتفنن فى صنع ذلك الهرم من الكوالح ويبدى كل منا مهارته فى إشعالها دون أن يملأ المكان بالدخان.
وأرغفة العيش البلدى التى توضع فوق جذوات النار بعد أن تصفو وما يصحب اكلها من متعة لا تقاوم، أو أصابع المنين والكعك التى توضع فوق النار فترى بها لمعة تجذبك إليها وطراوة ساخنة تجعلك تأكلها ليس لأنك جائع بل لأنك تتلذذ بها،.
حكاوى ست الحسن والشاطر حسن ، حكايات الجن والعفاريت التى كانت تمنعنا النوم أحيانا ولكنا كنا نصدقها ونعيشها بل ونتخيلها فى كثير من الأحيان.
بيت العيلة واللمة حول الجد ، كان جدى لأبى يجمعنا حوله على الإفطار ذلك الطبق الواسع طبق المفروكة باللبن الساخن والسمن نتحلق جميعا حوله على الأرض الدافئة.
بيت العيلة بكل دفئه ، الشارع الواسع الممتد امام المنزل هو موضع اللهو بقية اليوم، من هذا الشارع إلى صهريج المياه القريب جدا من البيت .
أو إلى الغيطان نمرح فيها كيفما نشاء ، كان الكون هناك متسعا والدنيا براحا لا حدود له، أذهب إلى جدى لأمى، أجلس بجواره.
أشاهده بتركيز شديد وهو يضع حبات البن فى تلك المحمصة ثم يديرها ليصنع البن ثم يصنع قهوته متأنيا .
يأتى دورى الآن أستجديه أن يعطينى بعضا من قهوته، لم تكن توسلاتى تطول كان يعطينى رشفة أو رشفتين من تلك القهوة التى أصبحت أشهر مدمنيها فيما بعد.
جدى كان بسيطا ولكنه كان يملك كنوزا من الحكمة، هكذا كانوا يقولون فى قريتى التى كانت يوما وادعة ، أذذهب معه أحيانا إلى دوار العيلة.
بناء قديم بالنسبة لى كان بناء شاهقا تملؤنى الرهبة حين أراه أو حين أدخله ، كل شيء فى هذا المكان عتيق تفوح منه رائحة تاريخ بعيد.
الحيطان التى تملؤها الرطوبة ، كانت حيطانا ضخمة ، باب الدوار الذى كان يشبه أبواب القلاع القديمة ، تشعر أنك قزم امام هذا الباب مهما كنت كبير أو ضخما.
تلك الشجرة التى كانت واقفة هناك فى شموخ فى وسط المكان ، جذعها الذى يخبرك أنها عاشت هنا مئات السنين.
ما كان يكفى أربعة أن يتحلقوا حولها ليحيطوا بقطر هذا الجذع، الرهبة التى تمل}ك عند الوقوف تحتها تنظر فوقك لتجدها تمتد على المكان كله فتغطيه.
فروعها الممتدة فوق ثمانى قراريط من الأرض ، جذورها الضاربة فى كل ما حولها ، كنا نراها من منتصف الطريق بين قريتنا والمدينة التى تليها.
نراها من فوق سطح أى منزل فى القرية ، كانت علامة بارزة، وكلما رأيتها ونحن نركب العربات متجهين للمدينة أو عائدين منها أتظر لرفاقى بكل فخر هذه الشجرة تقع هناك فى دوار العيلة.
يوما قرروا أن يعيدوا بناء المكان على الطراز الحديث وقرروا قطع تلك الشجرة التاريخ.
عندما دخلت المكان لاول مرة بعد قطعها شعرت أن هناك شيئا ناقصا ، الويل لهم كيف يقتلعون تاريخهم بكل هذه البساطة جددوا المكان كما أردتم ولكن لا تقطعوها.
تلك الشجرة كانت شاهدا على مئات من سنوات القرية وشاهدا لكم ولتاريخكم.
كيف طاوعتكم قلوبكم القاسية أن تقطعوها بئسا لكم، أردد هذه الكلمات لنفسى كلما دخلت إلى المكان.
تركت كل طفولتى فى هذا المكان ، مازالت رائحة الحيطان العتيقة فى أنفى لم تزل، مازلت أحفظ شكل المقاعد القديمة والقاعة الصيفية التى كنا نلعب فيها ورفاقى.
ثم لم يعد شيء كما كان ، بيت العيلة ، اجدادى ، رفاقى ، القرية التى فقدت هدوءها ، المزيفون احتلوا كل مكان ، قتلتم طفولتى
لماذا قطعتم تلك الشجرة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟